لوحة الجوكوند.. ابتسامة تُربك القرون وتحبس أنفاس العالم 

جهات

 في قاعة هادئة داخل متحف اللوفر، تتربع الجوكوند خلف زجاج مضاد للرصاص، كأنها سيّدة تعرف تماماً قيمتها. لا تحتاج إلى إطار ذهبي فخم أو إضاءة مسرحية لتجذب الأنظار؛ يكفي أن ترفع رأسها قليلاً، وأن تلقي تلك النظرة المائلة التي حيّرت العلماء والفنانين والفلاسفة لأكثر من خمسة قرون.

الجوكوند ليست مجرّد لوحة. إنّها لغز، ورمز، ونافذة تُطلّ منها الإنسانية على أعماقها. عندما رسمها ليوناردو دا فينشي بين 1503 و1506، لم يكن يقصد تخليد ملامح امرأة مجهولة بقدر ما كان يسجّل درساً في الخلود. ابتسامتها لم تكن ابتسامة عابرة، بل فكرة متحرّكة تتبدّل حسب مزاج الناظر إليها: تراها هادئة، ثم ساخرة، ثم حزينة، ثم كأنها تخفي شيئاً لا تريد قوله.

هذا التناقض هو سرها الأكبر. فوجهها يشي بالطمأنينة، لكن عينيها تلاحقانك بصرامة. ملامحها ثابتة، لكن روحها تتحرك. إنها لوحة تخدعك بذكاء، تجعلك تشك في قدرتك على الفهم، كأن دا فينشي كتب رسالة مشفّرة وترَك العالم يحاول فكّها منذ 500 عام بلا جدوى.

ورغم آلاف الدراسات، والنظريات، والكتب التي تناولتها، ما تزال الجوكوند تحافظ على هيبتها. العالم يهرع إلى اللوفر لرؤيتها، لا لأنها أجمل لوحة، بل لأنها الأكثر تأثيراً. ملايين الزوار يقفون أمامها لدقائق معدودة، لكن معظمهم يخرج وفي ذهنه السؤال نفسه: لماذا تبتسم؟

ربما لأن السرّ ليس في ابتسامتها، بل فينا نحن. ربما لأنها امرآة نرى فيها ما نريد رؤيته. وربما لأنها تعرف أنّ غموضها أثمن من أيّ تفسير.

في زمن تهيمن فيه التكنولوجيا والصور الفورية، ما يزال عملٌ مرسومٌ بفرشاة قبل خمسة قرون يحرك فضول البشرية. وهذا وحده يكفي لتفهم أن الجوكوند ليست مجرد تحفة فنية؛ إنها الأسطورة التي لم تكتمل، واللغز الذي نتمنى في سرّنا ألا يُحلّ أبداً.

فالخلود، كما يبدو، يبدأ بابتسامة لا تختفي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.